حرب العملات و مظاهرها، وتطورها
مظاهر حرب العملات
اتسعت في الآونة الأخيرة مظاهر الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حول أسعار الصرف بين عملتيهما، إذ تدعي الولايات المتحدة الأمريكية بأن الصين قامت بوسائل متعددة بتخفيض سعر صرف عملتها (اليوان) إزاء الدولار في الأسواق الدولية، أو من خلال تدخل المؤسسات المالية والنقدية الصينية باتخاذ الإجراءات التي حالت دون ارتفاع سعر صرف اليوان الصيني طيلة السنين الماضية رغم ازدياد الفائض في الميزان التجاري الصيني، الذي يفترض أن يقترن بارتفاع سعر صرفه. وتدعي الولايات المتحدة الأمريكية بأن السبب الرئيسي وراء التدفق الواسع للسلع الصينية نحو الأسواق الأمريكية، الذي تفاقم في السنوات الأخيرة، مقابل تعثر تدفق الصادرات الأمريكية نحو الأسواق الصينية، وما ترتب على ذلك من توسع العجز في الميزان التجاري للولايات المتحدة الأمريكية إزاء الصين، هو انخفاض سعر صرف اليوان الصيني إزاء الدولار الأمريكي (الدولار الأمريكي يعادل حالياً (6.67 يوان صيني). ولهذا تطالب الولايات المتحدة الأمريكية دولة الصين بضرورة القيام برفع سعر صرف عملتها بحدود لا تقل عن 40 ،%بل أن الولايات المتحدة الأمريكية قد هددت الصين بأنها قد تلجأ إلى فرض قيود على استيراد السلع الصينية بخاصة الرسوم
الكمركية في حالة امتناع
دراسات في الاقتصاد الدولي- آراء اقتصادية واجتماعية
الصين عن الانصياع إلى الطلب الأمريكي هذا، والقيام برفع سعر الصرف لعملتها. والمعروف أن انخفاض سعر الصرف يتسبب (في الغالب) بتشجيع التصدير، وظهور الآثار الإيجابية على الإنتاج والتشغيل في تلك الدولة، في حين أنه يؤدي إلى حصور آثار معاكسة على الدولة المستوردة، إذ أنه يؤدي (في كثير من الأحيان) إلى تعثر صادراتها وتأثير ذلك سلبياً على الإنتاج والتشغيل (يستثنى من ذلك حينما يكون الطلب على سلع تلك الدولة غير مرن كما هو الحال بالنسبة للصادرات الألمانية).
ولو توقفنا برهة إزاء هذا الصراع، لوجدنا أن الصين تحظى بمزايات اقتصادية كثيرة بعد انفتاحها على الأسواق العالمية منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، لعوامل متعددة أهمها انخفاض مستويات الأجور فيها وسعة أسواقها الداخلية، وقربها من الأسواق الآسيوية الواسعة، وهو ما ساعدها على جذب الاستثمارات الأجنبية، واستيعاب الأساليب التكنولوجية الحديثة، وقد ساعدت هذه العوامل على انخفاض مستوى التكاليف في الاقتصاد الصيني، وانخفاض مستويات الأسعار للسلع الصينية وازدياد الطلب عليها عالمياً، ولم يكن للمستويات المنخفضة لسعر صرف (اليوان) الصيني إلا دوراً هامشياً.
والحقيقة فإن الدولار الأمريكي هو أكثر عملة تميزت بانخفاض أسعار صرفها بشكل متتالي منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي، لكن تلك الانخفاضات العميقة، التي تسببت بحصول الأضرار الكبيرة للعديد من دول العالم، لم تسعف الاقتصاد الأمريكي بسبب مشاكله الكثيرة والكبيرة.
طالع أيضا سوق الدولار الأوروبي
والمظهر الثاني لتلك الأزمة هو الصراع بين الدول الصاعدة، وهي الصين والهند والبرازيل وروسيا، وتضاف إليها اليابان وبعض دول جنوب شرق آسيا أحياناً، وبين العديد من دول العالم التي تطالبها بتخفيض الفائض في موازينها التجارية ورفع سعر الصرف لعملاتها الوطنية، ذلك لأن هذه الدول تحظى ولو بنسب أقل، بذات المزايا الاقتصادية التي تحظى بها الصين، فيما يتعلق باتساع الطلب على سلعها في الأسواق الدولية، وتميز موازينها التجارية بالفائض، وتحولها إلى دول دائنة للدول الأخرى.
والمظهر الثالث الذي برز في الآونة الأخيرة، هو الصراع بين دول الاتحاد الأوروبي من أجل الحفاظ على سعر صرف (اليورو) وموقعه في النظام النقدي الدولي، وهو العملة الرسمية لكافة دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك الحفاظ على كيان الاتحاد الأوروبي ووحدته في الوقت ذاته. ومحور هذا الصراع هو ظهور الانهيار في اقتصاديات بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الضعيفة اقتصادياً مثل اليونان وإيرلندا ثم أصبحت كل من البرتغال وأسبانيا مهددة بذلك الانهيار، وأن السبب لذلك الانهيار هو أن هذه الدول كانت تتفق بمستويات تتجاوز إيراداتها بمستويات عالية جداً، مما تسبب في ظهور العجز الشديد في ميزانياتها، وهو ما اضطرها إلى الاقتراض من البنوك والمؤسسات المالية الدولية لسداد هذا العجز، وحينما أصبحت هذه الدول عاجزة عن تسديد ديونها، أصبحت مهددة بالإفلاس، والجديد بالذكر هو أن إفلاسها وهي عضو في الاتحاد الأوروبي سوف يعني انهيار (اليورو) وانفصام وحدة الاتحاد الأوروبي.
ولذلك ومن أجل إنقاذ اليورو من الانهيار والحفاظ على كيان الاتحاد الأوروبي، كان البديل هو أن تقوم بقية دول الاتحاد الأوربي بإقراض تلك الدول مليارات الدولارات لكي تساعدها على معالجة مشاكل ديونها والنهوض باقتصادياتها (قامت دول الاتحاد الأوروبي حتى الان بإقراض اليونان (120 (مليار يورو وإقراض إيرلندا (72 (مليار يورو). وقد اقترنت تلك القروض باشتراط الدول الدائنة بضرورة التزام الدول المقترضة بتطبيق سياسة تقشفية قاسية تستهدف تقليص إنفاقها على الجوانب الاجتماعية مثل الرعاية الاجتماعية والتعليم والصحة وكذلك زيادة الضرائب في سبيل مساعدتها على تقليص العجز في موازينها الحكومية وزيادة قدرتها على الوفاء بديونها.
تطور النظام النقدي الدولي وانعكاساته على حرب العملات
ولم تكن مشكلة عدم الاستقرار في أسعار صرف العملات جديدة في أفق العلاقات الاقتصادية الدولية، بل إنها قد تفاقمت منذ أن خرجت دول العالم من قاعدة الذهب في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي. فما أن كانت دول العالم تتعرض إلى الأزمات الاقتصادية التي تنعكس في ازدياد العجز في موازينها التجارية وموازين مدفوعاتها، نتيجة لطغيان إنفاقها على إيراداتها، حتى تنعكس تلك الأزملات في طغيان عرض عملاتها الوطنية على الطلب عليها، وهو ما كان ينعكس في انخفاض أسعار صرف عملاتها إزاء عملات الدول الأخرى، وقد كانت تلك الدول تلجأ دائماً إلى تطبيق الإجراءات التقشفية والاقتراض من الدول الأخرى لمعالجة تلك المشاكل لكنها كانت تضطر في ثير من الأحيان، إلى تخفيض سعر الصرف الرسمي لعملتها الوطنية إزاء العملات الأخرى.
وحينما تفاقمت الأزمة النقدية قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية وازدادت الانهيارات في أسعار صرف العملات انعقد مؤتمر برتن وودز عام 1944 وقد اشتركت فيه آنذاك (44 (دولة في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وأغلب الدول الرأسمالية، وكان الهدف من انعقاده هو وضع الأسس لنظام نقدي دولي يضمن الاستقرار في أسعار صرف العملات، ويساعد على نمو التعاملات الدولية.
وقد تمخض المؤتمر عن إنشاء منظمتين هما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، تقوم الأولى بتقديم
القروض القصيرة الأجل والاستشارات للدول الأعضاء التي تساعدها على تقويم أنظمتها النقدية، وتحقيق الاستقرار في أسعار صرف عملاتها