سوق الدولار الأوروبي
ومما ضاعف في تعميق الأزمة التي عاشتها دول السوق الأوروبية في السنوات الأخيرة تلك التحركات العنيفة والمضاربات الواسعة التي كانت تحصل في سوق الدولار الأوروبي.
والجدير بالذكر هو أن الدولارات الأوروبية هي بالأصل دولارات أميركية، وجهة إصدارها هي الولايات المتحدة الأميركية، وأن هذه الدولارات بدأت تتجمع في الأسواق النقدية الأوروبية منذ مطلع الخمسينات، على إثر أزمة السيولة الدولية، لكن تدفقها على الأسواق الأوروبية اتسع مع اتساع العجز في ميزان المدفوعات الأميركي بعد نهاية الستينات، حتى أصبحت لها سوقا مستقرة وواسعة في أوروبا الغربية، وبقيت تتحرك لتسوية المدفوعات بين دول السوق دون أن تعود إلى موطن إصدارها في الولايات المتحدة الأميركية، وتشير بعض الدراسات إلى تقدير حجم الدولارات الأميركية خارج الولايات المتحدة بين 500-600 مليار دولار.
منها في السوق الأوروبية المشتركة لوحدها قرابة 244 مليار دولار. وبطبيعة الحال فإن الانهيارات المتوالية التي حصلت في سعر الصرف للدولار الأميركي في السنوات الأخيرة قد أفضت إلى تقلبات عنيفة وغير متشابهة في أسعار صرف عملات السوق الأوروبية المشتركة، سيما وأن تسوية المدفوعات بين البنوك المركزية الأوروبية لا تزال تحصل حتى يومنا هذا بالدولار الأميركي.
ولذلك كله فقد راحت الدول الأعضاء في نظام الثعبان الأوروبي تنسلخ منه الواحدة بعد الأخرى، فقد انسحبت منه بريطانيا منذ حزيران 1972 ثم تبعتها كل من ايطاليا وايرلندا بعد فترة وجيزة، ثم خرجت عنه فرنسا عام 1974 ،ولم يبق في قائمة الثعبان الأوروبي إلا ألمانيا الغربية ودول البنلوكس والدنمارك والنرويج.
طالع أيضا أزمة العلاقات الاقتصادية الدولية
وخلاصة هذه الأحداث هي أن نظام الثعبان الأوروبي لم يساعد الدول الأوروبية على تنسيق سياساتها النقدية، بل
جرها بفعل تقلباته العنيفة التي تجاوزت الحدود المسموح بها، إلى فرض القيود التجارية والنقدية المختلفة لحماية
اقتصادياتها من آثار الأزمة الخانقة التي حلت فيها، حتى أصبح الثعبان بحد ذاته خطرا يهدد التكامل الاقتصادي الأوروبي
بدلا من أن يعمل على تعميق التكامل وحل مشاكله.
النظام النقدي الأوروبي الجديد
لاحظنا مما سبق أن الدول الأعضاء في السوق الأوروبية المشتركة أصبحت خلال الأعوام الأخيرة، وبخاصة عامي 19781977 ،تتنافس في تطبيق القيود والعراقيل التجارية والنقدية لحماية اقتصادياتها الوطنية من مؤثرات الاقتصاد الدولي، بعد أن أصبحت كافة هذه الدول تعاني من أزمات التضخم والبطالة والأزمة النقدية.
إن هذه الظاهرة أصبحت تقلق المعنيين في منظمة السوق الأوروبية المشتركة حول مصير التكامل الاقتصادي الأوروبي، لأن فرض القيود والعراقيل يعني العودة إلى الوراء في مسيرة التكامل الاقتصادي، لكونها تتناقض مع الهدف الأساس لمنظمة السوق الأوروبية المشتركة. وهو تحرير انتقال عناصر الإنتاج بين الدول الأعضاء، والذي حققت منظمة السوق معظم جوانبه منذ نهاية الستينات بل إن هذه القيود أصبحت تشكل تهديدا لكافة تطلعات السوق الأوروبية المشتركة حول التكامل الاقتصادي الأوروبي والوحدة الأوروبية.
مشروع جينكنز
وفي خضم تلك الظروف العصيبة التي عاشتها منظمة السوق الأوروبية في الآونة الأخيرة، طرح الاقتصادي المشهور روي جينكنز، رئيس لجنة السوق الأوروبية المشتركة، مشروعا حول الاتحاد النقدي الأوروبي، أوضح فيه بأن الاتحاد النقدي الأوروبي هو العصب الأساس في التكامل الاقتصادي الأوروبي، وصولا إلى الوحدة الأوروبية، ولا يمكن السير قدما إلى الأمام في محاولات التكامل الاقتصادي الأوروبي دون تحقيق الاتحاد النقدي الأوروبي.
فطالما أن الأنظمة النقدية للدول الأعضاء في السوق ترتبط بالدولار، وطالما أن تسوية المدفوعات بين كافة البنوك المركزية لدول السوق تحصل بالدولار الأميركي، فإن كافة الانهيارات التي يعيشها الدولار الأميركي سوف تفضي إلى المزيد من الاضطراب في أسعار صرف العملات لدول السوق وزيادة وتائر التضخم والبطالة كتحصيل حاصل، وسوف يظل الشغل الشاغل لكل دولة من دول السوق هو تطبيق الإجراءات والقيود التي تساعدها على معالجة مشاكلها الداخلية دون الإلتفات إلى مدى انسجام تلك الإجراءات مع أهداف السوق.
ولهذا فإن الإجراء الحاسم في تصور جينكنز هو إنقاذ دول السوق الأوروبية المشتركة من مؤثرات أزمة النقد الدولية وأزمة الدولار بشكل خاص، والسبيل إلى ذلك هو الكف عن الارتباط بالدولار الأميركي والاعتماد عليه في تسوية المدفوعات بين البنوك المركزية لدول السوق، والاستعاضة عن ذلك بعملة دولية جديدة سماها جينكنز بالعملة الموازية
(Wahrung Parallel.(