نظام النقد الأوروبي الجديد
علاقته بأزمة النقد الدولية وآثاره على أقطار الوطن العربي
إذا كان الاختلال في ميزان المدفوعات هو العامل الأساسي المؤثر على أسعار الصرف، فإن السياسة التي اعتادت الدول الرأسمالية على تطبيقها منذ انعقاد مؤتمر برتن ودز لمعالجة هذا الاختلال هي التركيز على الإجراءات الاقتصادية الداخلية خاصة النقدية والمالية والتجارية منها، فعند حصول العجز في ميزان المدفوعات تلجأ الدولة إلى تطبيق الإجراءات التقشفية التي تساعدها على تقليص الطلب الداخلي لغرض زيادة التصدير وتقليل الاستيراد، ثم تذليل العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات كتحصيل حاصل. وعندما يصل العجز إلى المستوى الحاد الذي تعجز عن علاجه مثل هذه الإجراءات تلجأ الدول عندئذ إلى الاقتراض من الخارج أو إلى تخفيض سعر الصرف لعملتها الوطنية.
تفاقم الأزمة النقدية بعد عام 1971
ومن الناحية العملية كانت سياسة تغيير سعر الصرف للعملة الوطنية هي الأداة الفعالة التي ساعدت الكثير من الدول على معالجة الاختلال في موازين مدفوعاتها حتى مطلع الستينات، لأن هذه الدول ما كانت تفضل الاعتماد على الإجراءات الداخلية كإجراءات التقشف، بالنظر للمضاعفات السياسية الكثيرة التي تكتنف تطبيق مثل هذه الإجراءات، لكن سياسة تغير سعر الصرف أصبحت ضئيلة الفعالية والتأثير على ظاهرة الاختلال في ميزان المدفوعات بعد نهاية الستينات بعد أن استفحلت أزمة النظام الرأسمالي سابقة الذكر، خاصة وأن ظاهرة التضخم التي تفاقمت في غالبية الدول الرأسمالية بعد مطلع السبعينات قد اقترنت بتزايد هائل في الطلب الداخلي كانت تعجز الإجراءات السابقة الذكر عن كبح جماحه أو الحد منه، والدليل على ذلك ما حصل في كل من اليابان وسويسرا وألمانيا الغربية.فبالرغم من الارتفاع المتواصل في أسعار الصرف لعملات هذه الدول لم ينخفض حجم التصدير بل ازداد وتزايد الفائض في ميزان المدفوعات لكافة هذه الدول بشكل متواصل، وعلى النقيض ما حصل في الولايات المتحدة الأميركية، فبالرغم من الانخفاض المتواصل في سعر الصرف للدولار الأميركي تزايد العجز في ميزان المدفوعات الأميركي.ولذلك فإن الاختلالات الحادة التي حلت في موازين المدفوعات للدول الرأسمالية الكبرى بعد نهاية الستينات والتي اقترنت بموجة عارمة من التضخم والمضاربة برؤوس الأموال أصبحت تمارس آثارا مباشرة وغير محدودة على أسعار صرف العملات، وقد اتخذت هذه الظاهرة أبعادا خطيرة بعد مطلع السبعينات، سيما وأن هذه الظاهرة أصبحت تقترن بموجة عارمة من تدفق رؤوس الأموال ورفض العملات الضعيفة خاصة الدولار الأميركي والباوند الإسترليني والفرنك الفرنسي والليرة الإيطالية، وتهافت منقطع النظير على شراء الذهب والعملات القوية كالمارك الألماني والين الياباني والفرنك السويسري، حتى بلغ معدل التدفق اليومي على المارك الألماني في نيسان 1971 قرابة المليار دولار يوميا على بنوك ألمانيا الغربية و250 مليون دولار على البنوك السويسرية.ولم يكن أمام البنوك المركزية الأوروبية واليابانية إزاء هذا التدفق الخطير لرؤوس الأموال، والتقلبات الحادة في أسعار الصرف، سوى أن تقفل أبوابها معلنة امتناعها عن إجراء المزيد من عمليات صرف العملات، وبالفعل فقد تكررت ظاهرة إقفال البنوك مرارا
تعويم العملات
وكانت النتيجة التي لا مناص منها هي أن تتخلى الدول الكبرى عن قاعدة أسعار الصرف المستقرة، وبخاصة قاعدة القيم المتعادلة وارتباط أسعار الصرف بالدولار الأميركي، سيما وأن الولايات المتحدة الأميركية نفسها قد تخلت بموجب قرارات نيكسون سالفة الذكر عن قاعدة ارتباط الدولار بالذهب وفق السعر الرسمي الذي أقره برتن وودز، وهكذا أعلنت كل من ألمانيا الغربية وهولندا تعويم عملاتها في عام 1971 ثم اتسعت قائمة الدول التي عومت عملاتها حتى شملت كل من اليابان وإنكلترا وبقية دول السوق الأوروبية المشتركة.
ويعني إجراء التعويم نظريا أن تمتنع الدول عن التدخل في سوق الصرف، بمعنى أن يتحدد سعر الصرف وفقا لتيارات العرض والطلب. ومن هنا يعني التعويم الخروج عن المبادىء التي أقرها مؤتمر برتن وودز حول الالتزام بأسعار الصرف المستقرة عندما يعني إطلاق حرية تغيير سعر الصرف وفقا لما تقتضيه تيارات العرض والطلب في أسواق العملات.
ومن الناحية التاريخية فإن إجراء التعويم ليس جديدا في أفق الاقتصاد الدولي، لأن أغلب عملات الدول الأوروبية التي اشتركت في الحرب كانت معومة خلال الفترة بين نهاية الحرب العالمية الأولى وعام 1925 ،لكن تجربة التعويم بعد عام 1971 اقترنت بنماذج متعددة من التدخل الحكومي التي كان الغرض من تطبيقها حماية أسعار الصرف من الضغوط الداخلية والخارجية.
وعلى أية حال فإن إجراء التعويم لم يأت بنتائج مفرحة لتلك الدول التي علقت على تطبيقه الآمال، فهو لم يساعد على
تحقيق التوازن المنشود بين الأسعار الداخلية والخارجية، وإنما أفضى إلى موجة عارمة من المضاربات المالية التي كان من نتائجها ما حصل من تأرجحات شديدة وحادة في أسعار الصرف، وكان عاملا مضافا من عوامل التضخم وعدم الاستقرار.
نظام الثعبان الأوروبي
وإزاء هذه الصورة القاتمة لتجربة التعويم الحر بدأت الدول الأوروبية تتحرى عن وسيلة جديدة تساعدها على العودة من جديد إلى نظام الأسعار المستقرة بصيغة جديدة تختلف عن صيغة القيم المتعادلة سابقة الذكر.
وكان البديل الذي استقرت عليه في نيسان 1972 الدول الأعضاء في السوق الأوروبية المشتركة وكذلك الدول المرشحة لعضوية السوق آنذاك مثل انكلترا وايرلندا والدنمارك والنروج، هو نظام الثعبان الأوروبي، أو ما يسمى أحيانا بالتعويم الموجه.
وهو اتفاق حصل بين هذه الدول على تحديد مجالات التذبذب في أسعار الصرف لعملاتها بحدود ثابتة قدرتها 225% ارتفاعا وانخفاضا عن سعر التعادل المشترك لعملات السوق، يذكرنا ذلك أن حدود التذبذب المسموح به في اتفاقية برتن وودز كانت 1 %مما يعني أن أهم ما تميزت به اتفاقية الثعبان هو أن حدود التذبذب أصبحت في ظل هذه الاتفاقية أكثر مرونة من ذي قبل، طالما أنها تستطيع أن تصل إلى 450 %وهو حاصل جمع حدود التذبذب بين العملة الضعيفة والعملة القوية.
وفي بداية ظهور هذا النظام كانت حدود التذبذب بين العملات الضعيفة والقوية عن سعر التعامل المشترك لعملات السوق تحتسب بالقياس إلى أسعار صرف الدولار الأميركي.
ولهذا كان هذا النظام يتخذ عند نشوئه تسميته “الثعبان في النفق” وهو يعني أن حدود التذبذب بين أسعار الصرف ينبغي أن يحصل في نطاق حدين، هما بالنسبة للعملات الضعيفة 225 %انخفاضا قياسا إلى سعر صرف الدولار، وبالنسبة للعملات القوية 225 %قياسا إلى سعر صرف الدولار أيضا، وكأنما يمثل هذان الحدان النفق الذي يسمح للثعبان أن يتحرك داخل جدرانه العليا والسفلى.
لكن نفق الدولار ما لبث أن تلاشى عندما توالت الانهيارات في أسعار صرف الدولار عام 1973 ،وقررت ست من دول السوق الأوروبية المشتركة هي ألمانيا الغربية وفرنسا والدنمارك وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ تعويم عملاتها تجاه الدولار الأميركي، وظل الثعبان منذ مارس 1973 يتحرك دون نفق الدولار.
وفي الحقيقة كانت سياسة الثعبان الأوروبية في جوهرها محاولة لترميم ما تصدع في جوانب التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء في السوق الأوروبية المشتركة، في ذلك الوقت الذي ظهر لهذه الدول بأن التكامل الاقتصادي بين هذه الدول لا يمكن أن يتحرك بخطوات حثيثة إلى الأمام ما لم تلتفت هذه الدول إلى تنسيق سياساتها النقدية، لأن اتساع الفجوة بين أسعار صرف عملاتها إنما تفضي بالأخير إلى انعكاسات خطيرة على مستوى الأسعار الداخلية في هذه الدول، مما يضطر بعضها إلى وضع القيود التجارية والنقدية لحماية اقتصادياتها من الضغوط الخارجية، وهو أمر يتناقض مع ما تصبو إليه السوق من تحرير لكافة انتقالات عناصر الإنتاج فيما بين الدول الأعضاء فيها. في حين يعني تنسيق سياسات أسعار الصرف وتوحيد التغيرات في أسعار الصرف اختزال هذه الظواهر وفتح المجال رحبا أمام المزيد من محاولات التكامل الاقتصادي.
طالع أيضا سوق الدولار الأوروبي